-

لتحميــــل الـعــــدد الثانـــي اضغط هنا - العودة للـعــــــــدد ألاول , أضغـط


الخميس، 22 أبريل 2010

تكست - الى الشـــــــعراء : جمال جاسم امـــين

إلى الشعراء

*جمال جاسم أمين

(نحن القرويين العُزَّل

عندما لا نجد فسحة للرعاة

ننظر الى الناي ...

على انه ذكرى قصب)

هل نحن حقا قصب ؟ ولأننا كذلك نحترق سريعا ؟ ربما هذا الذي نقوله الآن هو دخان تلك الحرائق... عندما شعرت انني أفرط في الحزن استدركت وقلت له : يا صديقي لا أريد أن أُوجعك بهذا الكلام لأنني أعرف إن ما لديك من أوجاع يكفي لتأثيث مستشفى بأكمله !

واليوم أمامكم أيها الشعراء ... أقول الكلام ذاته .

الشاعر في أرض محروقة لا مصير له سوى الرماد ... ربما هذا هو مصير الكائنات التي تسير على عكازين من قصب فإذا أحترق العكازان، أحترق الطريق كله !

لا أدري لماذا كلما اسمع كلمة ( شعر ) أشعر بارتفاع ضغط الدم ؟

يوم كنا طلابا في الثانوية اتجهنا في نزهة صوب الشعر ، كنا نعتقد أنها نزهة لا غير، تسلية وجمال محض بل وجاهة أحيانا أن يصبح المرء شاعرا ،أما اليوم فلا أنصح أحدا بذلك ... أيها الإنسان خُلقت لتحيا فلماذا تبتكر موتك... ؟ الشعر في غير فضائه موت ،والقصيدة كفن نَزفُّ إليه الكلام ، قد أبدو متشائما بهذا المعنى ولكنكم تطلبون مني أن أتحدث عن الشعر .

اخترت في هذه الورقة أن أتنحى عن النقد قليلا ، النقد بوصفه تعاليا أو وصاية وهي مهمات تأكل من جرف الحرية ،ذلك لأنها تدفعني الى صرامة التوصيفات،

كتبت أكثر من كتاب كما يعرف الجميع بلغة نقدية خالية من روح الاشمئزاز التي أطلقها الآن بسبب السخام الهائل الذي يلطخ حائط الشعر .

وللأسف أقول : النقاد – غالبا – يشترون السخام بسعر المصابيح ،والقُرَّاء كُسالى ،ولكن تبقى حيرة الشاعر الذي يشعر بجسامة المسؤولية ،الشعر رسالتك التي تُهديها الى العالم بعد أن تتهم هذا العالم بالنقص فيطالبك بالكمال ... من أين أتيت بهذه الورطة أيها الشاعر ...؟ معادلة خاسرة : فردٌ بمواجهة عالم !

يُخطيء من يظن إن للشعر أصدقاءاً ، للشعر أعداء غالبا ، الشعر يبدأ غواية ... تشعر في بداية حياتك انك تسبح في بحيرات صديقة ثم تندم عندما تعرف إن موج هذه البحيرات ليس أزرق ... هنا عليك أن تنتقل من مطاردة الجمال الى الحكمة ... أظنني أذكركم بتجربة البريكان الذي تخلّى عن الجمال لصالح الحكمة وتخلّى عن الحكمة أخيرا لصالح الموت،هل يكتمل وجود الشاعر بموته... نعم أظن ذلك ، الشاعر لا يكتمل إلا بالموت... الموت هو القصيدة الكبرى والأخيرة أيضا .

أعتقد إن عُمّال ( المقابر ) أقصد ( الحفَّارين ) يفرحون لمثل هذا الكلام ويستبشرون خيرا ، يقولون: إن هذا الرجل يحرِّض الناس على رزقنا وأنا أقول هنيئا لكم بما كسبتم أيها الحفارون ... الناس هنا في حفرة أنتم تعمّقونها لا أكثر وتأخذون الأجر على مشقة العمق... العمق ليس مجانا بالتأكيد وإلا لماذا يصبح البعض شعراء... أنها شهوة العمق كما أنها الوعي بان السطوح خاوية ... الأرض كلما تنخفض تبتل ،تصبح أقرب الى الماء... ربما من هنا جاءت فكرة القبور ،المنخفضة ... البعد من زيف السطوح الى يقين العمق ( واعبد ربَّك حتى يأتيك اليقين ) بالموت يتحقق هذا اليقين... لا أدري هل هنالك رسائل يبعثها الموتى ؟ ليس في صالح الحفارين بالطبع مثل هذا التراسل إنهم حفارون لا غير وليسوا سعاة بريد .. إنهم يطمرون ، يطمرون فقط كما إن الشاعر وقتئذٍ لا يحتاج الى مثل هذه المراسلات .

الشاعر في مثل هذه المرحلة ينشغل بفهرسة الأسف ولمِّ شتات التصدعات ومعالجة الشيب الذي ينبت كل لحظة على فروة الكتابة... الشاعر هنا مأخوذ بالفقدان لا يحتاج الى أكثر من بسالة ملقط يستطيع من خلاله التقاط خرز أيامه التي انفرطت دون جدوى ...

قد يبدو الأمر مضحكا عندما يتراجع الإنسان عن رحلةٍ بدأها أو يكف عن السباحة في بحيرةٍ أكتشف أخيرا إن موجها ليس أزرق ...

قد يفهمها البعض على أنها مرحلة نضوب أو توقف لا أكثر وأنا أقول : أنها النقطة الأكثر تقدما على مسار الخبرة .

الشاعر عندما ينضج ينتقل من متعة الجمال الى لوعة الخبرة ، ذلك لأن الخبرة تختزل الجمال أيضا مثلما تختزل الألم بالدرجة نفسها .

هل الخبرة هي الألم ؟ نعم ولكنها جمال أيضا

من هنا نفهم الإلتباس .. الشاعر كائن ملتبس ، الناس عادة لا يريدون هذا بينما الشاعر يتورط... الناس يريدون أن يعيشوا على الأرض كسكان، أما الشاعر لا يكتفي بذلك .. الشاعر يريد أن يعرف اللحاء الذي يكوّن الشجرة .

للالتباس – عادة – بوابة لا تفتحها إلا مطارق الأسئلة والناس تكره الأسئلة ، خصوصا النساء ... النساء يتوهمن إن للشاعر حدائق لا تنبت فيها سوى شقائق ( الغزل ) بينما الشاعر في حقيقته صحراء تستدرج الحدائق .. الاستدراج يحتاج الى وقت والمرأة عجولة دائما لا تنتظر ... التعميم أحيانا مطب مثلما التجاهل غفلة ... ليس كل النساء بالطبع هناك القلائل ممن ينتظرن حدائق الشعر،ربما لم نصادف أحدا من هذه القلائل وأتمنى أن لا أصادف لأنني الآن لا أملك طاقة تكفي لذلك... الطاقة الوحيدة التي أملكها هي البكاء ... الإنسان بعد الأربعين يسهل بكاؤه كما يقول احد الكتّاب .

أظنني لم أصل الى أية خلاصة بل وصلت الى القصيدة التي تريدونها ... ليست هناك خلاصات هناك فقط قصائد.

* شاعر وكاتب عراقي


ليست هناك تعليقات: