-

لتحميــــل الـعــــدد الثانـــي اضغط هنا - العودة للـعــــــــدد ألاول , أضغـط


الخميس، 22 أبريل 2010

تكست - جمال العمارة و ماهيتها : د. اسعد الاسدي



جمال العمارة وماهيتها

*د. أسعد الأسدي

كان ( افلاطون ) يتحدث عن وجود جمال واحد مطلق تشترك فيه كل الاشياء الجميلة ، وهو جمال ثابت لا يتغير، يتميز عن الاشياء الجميلة ويكون منفصلاً عنها . غير ان ( ارسطو ) ينظر إلى الجميل بوصفه وجوداً لموجود لا بوصفه موجوداً مستقلاً وقائماً بذاته ، فهو يقدم مفهوماً للجمال يتضمن ارتباط الجمال بالأشياء الجميلة واعتباره احد ابعاد وجودها.

وخلافاً لما يقدمه ( ارسطو ) من اشارة إلى حضور واقعي للجمال ، فأن ثمة آراءاً اخرى تذهب إلى ان الجمال لا يمتلك وجوداً موضوعياً في الأشياء ، بل ان وجوده يكمن في التلقي وحسب ، كما نجد ذلك عند ( هيوم ) الذي يقول بأن الجمال هو ليس كيفية توجد في الأشياء ذاتها ، وانما يوجد الجمال في الفكر الذي يتأمل تلك الأشياء . ومن شأن كل فكر، اذن ان يدرك جمالاً مغايراً .

غير اننا لو نفترض نقيض ما يقوله ( هيوم ) ونؤكد بأن الجمال هو كيفية توجد في الأشياء ، فأن ذلك لا يؤدي إلى ان يكون ما ندركه من الجمال ثابتا وواحداً ، لكي يكون في تغاير ما ندركه من جمال الأشياء مبرر لأن يرفع ( هيوم ) الجمال من الأشياء ويضعه في الفكر الذي يتأملها . بل العكس تماماً ، حيث ان جمال الأشياء الذي قد يحضر نتاج تدخلنا في انتاجها ، هو ايضا بعض عواقب ما نعتقده عن الأشياء وما نعرفه عنها . وعندما يكون موضوع انشغالنا هو العمارة بوصفها حقلا ابداعيا ، سنجد ان الابنية التي يمكن لها ان تكون في ذاتها ، مستقلة عنا ، على الرغم من تدخلنا في ايجادها ، فأنها تكون رهينتنا ايضا في ان نمنحها القيمة ونبني حولها الأعتقادات . فيكون اعتقادنا في جمال المبنى ، مثل اي وهم معرفي اخر لا يمكن له ان يصف المبنى كما هو في ذاته ، وفي وجوده الموضوعي ، مستقلا عن كل تعقيدات عملية المعرفة . كما ان الاعتقاد في جمال العمارة ، وعلى الرغم من كونه اعتقادا موجودا في جانب التلقي ، الا انه ليس منقطعا عن العمارة بوصفها وجودا شيئيا ، ولايمكن لهذا الأعتقاد ، في كل حال ، ان يتعرف على ما لا وجود له . ولذلك فأن الأعتقاد بجمال الشئ هو اعتقاد يقرأ خصائص موضوعية قائمة في الشئ ، ويشير الى وجود معين فيه يثير الشعور بالجمال ، ولكنه اعتقاد متغاير ومتعدد ، بسبب من طبيعته كفعل معرفي يتصف بالنسبية والذاتية والجزئية والتغير. ‏واذا كان جمال العمارة هو اعتقاد يبنيه المتلقي وهو يرقب الأبنية ، فأن السؤال الذي نرغب في طرحه الان هو ، مالذي يجب ان يتوافر عليه المبنى ، لأجل ان يكون جميلأ ، ولأجل ان نعتقد في جماله .

حتى اذا بدأنا بالفلسفة الأغريقية نجد ان جمال الشئ عند ( افلاطون ) هو ما يرغمنا على الأعجاب به ، وهو غاية عملنا عندما يبلغ العمل ذروة قوته . وعند ( ارسطو ) فأن كلمة ( جمال ) تدل على ما تحتويه الأشياء من خصائص تدعونا الى حبها والأعجاب بها . واذ‏ن فأن جمال الشيء في ان يحتوي الشئ على ما يبلغ به ذروة قوته فيدعونا الى الأعجاب به . وان المبنى او شكل تقديمه الذي يحقق الرضى هو مصدر جماله ، كما يؤيد ذلك ( كانت ) ، في ان الجمال هو انتظام الأجزاء وتناسقها بشكل يعطي لذة ورضى نفسيا .

ونجد في الخطاب النظري حول العمارة من يوافق هذه الأفكار ، في ضمان الأيحاء بجمال المبنى من خلال شكل حضوره ، كما في رأي ( البرتي ) وهو يستند الى ( فتروفيوس ) ، فيجد ان الجمال هو في توافق الأجزاء في الكل بطريقة معينة ، تضمن ان لا يضاف جزء او يزال دون ان يتحول الشئ الى الأسوأ . ولأجل الحصول على ذلك فلا شئ ، كما يقول ( البرتي ) ، اكثرمن التناسبات عونا على ذلك ، وهي تضمن لكل جزء من المبنى حجمه وشكله وموقعه المحدد ضمن الكل .

وقد بقي تفسير الجمال المعمارى لمدى طويل معتمدأ على أراء ( فتروفيوس ) ، فى اعتبار الجمال قضية تناسب ترتبط مع نظام يماثل تناسبات جسم الأنسان . غير ان ( بورك Edmund Burke ) كتب لاحقا ، ان الجمال لاعلاقة له بالتناسب ولا بالمنفعة ، بل هو ينتج عن خصانص مثل الصغر والنعومة والأناقة ، حيث يمتلك الشكل ما يجعل المبنى مثيرا للاعجاب وللشعور بالمتعة ، فيكون بذلك مبنى جميلأ .

‏ونحن نرغب هنا في البحث عن مدخل منهجي ، يحرر الجمال كقيمة من حالته المطلقة في وصف الأشياء المختلفة ، الى اعتباره جمالا يتعلق بالعمارة على وجه التحديد ، فيكون وصفا لها وجزءا منها ، ويمكن لنا ان نجد السبيل الى ذلك ، عندما يتاح لنا ا‏ن نتأكد من صواب ما نفترضه هنا ، بأن خصائص المبنى التي تجعله جميلا ، انما تصدر من خلال علاقة المبنى بماهيته ، فيكون المبنى جميلا بقدر ما يتوافر على مقومات ماهيته ، بأن يكون ما هو ، وفي ذلك منفذ الى مفهوم شمولي لمعيار الجمال ، يتجاوز المداخل الجزئية لبلوغه .

ولأن الماهية هي حكم معرفة تميز الشئ وتعرفه بما يجعله مختلفا عن سواه ، وانه ليس في الماهية حكم قيمة ، بل ان الشئ يحقق ماهيته ويكون ما هو ، وبعد ذلك يمكن له ان يكون جميلا او غير جميل . فأن الشئ لابد ان يكون ما هو اولا وكشرط ، لأجل ان يحقق جماله . فلا يكون جمال الشئ جمالا معماريا قبل ان يكون الشئ عمارة . وتمثل هذه الفرضية اساس بناء حكم القيمة حيث تتدخل ماهية العمارة في بلوغ جمالها .

‏ونجد ان ثمة مدخلين يؤديان الى دوام تعلق الماهية بالجمال ، مع ازدياد التوصل اليه على مستوى ابداعى . يتمثل المدخل الأول ، فى ان الجمال هو احد مبادئ العمارة الثلاثة الأساسية التى قدمها ( فتروفيوس ) ، حيث قال بأن العمارة تقوم على مقومات ثلاثة ، هي توفرها على متطلبات الوظيفة والمتانة والجمال ، وقد وافقه على ذلك العديد من المعماريين والمفكرين ، كما يمكن ان نلاحظ ذلك عندما نقوم بمراجعة لتاريخ نظرية العمارة . ولذلك فأن العمارة ولكي تحقق ماهيتها ، فأن ذلك يتطلب ان تكون جميلة . وأن كون العمارة جميلة وبمقدار ما تزيد في تحقيق جمالها ، فأنها في المحصلة انما تزيد فى انجاز ماهيتها ، لأن كل تقدم في الجمال هو تقدم في انجاز الماهية .

‏اما المدخل الثاني الذي يديم العلاقة الطردية بين الماهية والجمال ، فهو اعتقادنا بما يقوله ( الغزالي ) في ( كيمياء السعادة ) ، بأن جمال كل شئ وحسنه في ان يحضر كماله اللائق به . فأذا كانت جميع كمالاته الممكنة حاضرة ، فهو في غاية الجمال . فالجمال هو اكتمال لشيئية الشئ ، وان حضور الكمالات الممكنة للعمارة ، هو الذي يبني ماهيتها ويميزها عن سواها من الأشياء ، بأن يجعل العمارة هي هي . ولا يكون جمالا توفر الشئ على سواه ، عندما لايكون ذلك بعض ماهيته . اذ ليس من الجمال ان يتوافر المبنى على شئ من الكرسي مثلأ ، او ان يتوافرالبيت على شئ من المدرسة ، الا عندما يكون جزءا من ماهية البيت ان يتوافر على شئ من المدرسة .

‏ان البيت الذي يكون بيتا لأنه جميل ، على وفق معيار ان الجمال هو احد مبادئ العمارة ، فأن هذا البيت يكون بالمقابل جميلا لأنه بيت ، عندما يحقق ماهيته بوصفه بيتا . وان جمال العمارة يتكشف ويتأكد فى كم انجزت العمارة من ماهيتها . وان هذا الامر يعني بأننا لانستطيع ، ان نفترض جمال العمارة من خارج ماتتطلبه ماهيتها . واذن فأن العمارة هي التي تقترح جمالها ، لأن العمارة جميلة بالنسبة الى ذاتها ، والمبنى جميل بالنسبة الى ذاته ، اعتماداعلى ماهيته التي تأسست عبر تاريخ حضوره وجغرافيته . فيكون البيت جميلا بالنسبة الى كل البيوت ، التي اسهمت ولا تزال في بناء ماهية البيت . وان كل ما يتدخل في انجاز ماهية البيت ، يتدخل ايضا في انجاز جماله .

ان هذه العلاقة يين الماهية والجمال ، تكشف عن كون الجمال معيارا لكينونة الأشياء بالنسبة الى ذاتها. وان الجمال هو ليس قيمة مستقلة عن الأشياء ، ‏اذ لا يمكن ان نتحدث عن جمال الشئ قبل ان نعرف ما هو. ونحن عندما نحيل البحث عن جمال العمارة الى ماهيتها ، فنحن انما نحيله الى مجال معرفي ، ليس اقل غموضا من مفهوم الجمال ذاته . غير ان ارتباط احدهما بالاخر، الجمال بالماهية ، يكشف لنا عن مادة فكرية ملموسة وأقل غموضا . واننا اذ ندرك بأن جمال الكرسي هو بقدر ما يتاح له أن يحقق كونه كرسيا ، وأن جمال المبنى يكون بقدرما ينجز كونه مبنى ، فنحن بذلك انما نميز بين جمال الكرسي وبين جمال المبنى ، ونكتشف بأن لكل شئ جماله الخاص به ، والذي يتعلق وينتج عن ماهيته . وبذلك نمنح مضمونا ومحتوى محددا ومميزا لمفهوم الجمال ، لم يكن يمتلكه قبل ان يرتبط بشئ ما على وجه التحديد . ويكون الجمال اذن شكلا لمعيار، لا يمتلك مضمونه ومحتواه القيمي ، ‏الا من خلال تدخل الماهية وتوحدها معه .

‏ان العمارة التي تمتلك وظيفة تميزها عن اي ظاهرة اخرى ، والمبنى الذي يمتلك شكلا يميزه عن سواه من الأشياء ، له ايضا جمال يخصه ويختلف به عن جمال ما عداه . ولا يكون للعمارة ذلك الا من خلال ارتباط جمالها بماهيتها. ومن هنا فأن السؤال كيف يمكن ان تكون العمارة جميلة ؟ يكون جوابه ، ‏بأن تكون العمارة بدءا عمارة . وتكون العمارة اكثر جمالا ، عندما تكون العمارة اكثرما يمكن ان تكون بوصفها عمارة . فالجمال في العمارة هو من نتائج تحقق ماهيتها ، وان ثمة بداية كافية لأن تكون العمارة جميلة ، بأن تكون العمارة عمارة .

‏كان ( سقراط ) يعتقد في ان البيت الاكثر جمالا هو البيت الذي يجد فيه مالكه الراحة والسعادة في كل فصول السنة ، وان يتمكن ان يحمي فيه اشياءه وبضائعه . ويقول ( سكروتن ) ان احساسنا بجمال الأشكال المعمارية لا يمكن ان يعزل فكرتنا عن المبنى وعن الوظيفة التي يخدمها . اذ ‏ان احساسنا بجمال شئ ما يعتمد على فكرتنا عم هو ذلك الشئ .

‏ولقد توصلنا في مواضع اخرى سابقة ، الى ان العمارة ، هي مبنى يتوافرعلى متطلبات ايواء الأنسان . وقد كان من نتائج ذلك التوصل ان يتوافر المبنى على المتانة والثبات الأنشائي بأن يكون مبنى ، وان تتحقق فيه الملاءمة والكفاءة الوظيفيتين ، عندما تتحق فيه معايير المأوى . وحقيقة الأمر، فأن كون المبنى مأوى يتوافر على الملاءمة الوظيفية ويمتلك الثبات والمتانة الأنشائيتين ، هو بذاته قضية ذ‏ات رصيد جمالي مهم ، حيث يكون المبنى جميلا عندما يكون مبنى ، ويكون المبنى جميلا بقدر ما يكون مأوى ايضا ، لأن في ذلك حضور الكثيرمن ماهيته بوصفه عملا معماريا .

‏اما البحث عن جمال بقصد الجمال ذاته ، او الأهتمام بالشكل لغرض جمال الشكل ذاته ، فهو افق يجد مداه في ما يراه البعض من ان العمارة هي اكثرمن مجرد مأوى . ونحن نرى ان العمارة يمكن لها ان تكون اكثر من مجرد مأوى ، ولكن بأي اتجاه ، سوى فى اتجاه ان يكون المأوى اكثر ايواءا . اذ ليس للعمارة ان تكون الى النهاية ، و مهما كان لها ان تكون ، الا بأن تكون مأوى . اما عن كيف يمكن لها ان تكون اكثرمن مجرد مأوى فأن ذلك يكون في كيفية ان تكون العمارة بأعتبار انها مأوى، او في كيفية ان تكون مع انها مأوى. حيث يتعرض ( المبنى / المأوى ) الى عناية شكلية وجمالية لا تحيد عن انجاز شيئية المبنى ذاته ، لأن كيفية المأوى ومهما تعرضت الى العناية الشكلية فأنها لا تحيل المأوى على الرغم من ذلك ، الى ان يكون شيئا اخر، بل ان العناية بالكيف ، هي ايغال في الكشف عن امكانية ان يكون المأوى مأوى ، وقدما بأتجاه ان يقصد الشئ ذاته . وان يؤكد ماهيته فى تجلياته الشكلية والجمالية . وفي ذ‏لك تشكيل لما يريد ان يكون من طبيعة الشئ وبعض ماهيته في كيفية ان يكون على مستوى الشكل واكتمال تجلي الماهية .

* معمار عراقي



ليست هناك تعليقات: