-

لتحميــــل الـعــــدد الثانـــي اضغط هنا - العودة للـعــــــــدد ألاول , أضغـط


الخميس، 22 أبريل 2010

تكست - الروائي كورماك مكارثي - خيال رؤيوي لما بعد الكارثة - نجاح الجميلي



الروائي كورماك مكارثي: خيال رؤيوي لما بعد الكارثة


تيم آدامز

* نجاح الجبيلي


هناك رجال ينظرون إلى أطفالهم وهم ينامون بهدوء في منتصف الليل ويشعرون بالأمن لأنهم يعرفون أن كل شيء على ما يرام في هذا العالم. وكورماك مكارثي ،نبي أمريكا المتوحد الذي يبلغ الآن 76 سنة، ليس من هذا النوع من الرجال.حين نشرت روايته "الطريق" عام 2006 وصف كيف ظهرت بهذا الشكل:" قبل أربع أو خمس سنوات ذهبنا أنا وابني جون ،الذي كان يبلغ حينئذ الثالثة أو الرابعة، إلى مدينة "إل باسو" في ولاية "تكساس" نزلنا في فندق قديم هناك. وفي إحدى الليالي وبينما كان جون نائماً وكانت الساعة تشير ربما إلى الثانية بعد منتصف الليل خرجت أنا وألقيت نظرة على هذه البلدة من خلال النافذة. لم يكن هناك شيء يتحرك لكني استطعت أن أسمع القطارات وهي تدخل، وكان صوتها موحشاً. وتكونت في ذهني حالاً صورة لما يؤول إليه مصير هذه المدينة بعد 50 أو 100 سنة .. ستحترق على التل وكل شيء يؤول إلى الخراب. وفكرت كثيراً بابني الصغير. لهذا كتبت صفحتين. ثم بعد أربع سنوات أدركت بأن تلك لم تكن فقط صفحتين من كتاب بل كانت كتاباً وكان يدور حول ذلك الرجل وابنه".

هذا الكتاب حول الرجل وابنه جعل مكارثي يفوز بجائزة بوليتزر من بين الآخرين واختير كونه أعظم روائي خلال العقد الذي مضى. وقد أطلق فيلم معد عن الرواية في الفجر الغامض للعقد الجديد من بطولة "غيغو مورتنسن" في دور الرجل و "كودي سمتمكفي" في دور الابن.

وزعم مكارثي في مقابلاته النادرة بأن رواية "الطريق" هي قصة "عن الطيبة"، لكن بما أنها تصور أمريكا ما بعد الكارثة التي تحكمها قبائل وحشية من أكلة لحوم البشر ويهاجمها مرض مهلك وتتعرض لذوبان جوي فإن هذا يصدق فقط بالعلاقة بروايات مكارثي الأخرى مثل "خط زوال الدم" و"لا وطن للرجال المسنين" إذ الرعب والموت لا نظير لهما.



يدور في هذه الأيام حديث حول فشل السياسيين بقمة كوبنهاكن في الاتفاق على رد حاسم على الكابوس الأسوأ بالنسبة لعلماء المناخ وأنهم بحاجة إلى الخيال لتحري ذلك المستقبل. وربما كان أجدر بهم قبل انعقاد القمة أن يقرأوا رواية "الطريق".

إن مكارثي الذي غالباً ما يبدو متحدياً للعهد القديم، ليس لديه أي مشكلة مع تخيل ما هو أسوأ. إن الحدث المحدد الذي يسحب اللون كله من العالم الأمريكي ويتركه غارقاً في الدم ومغطى بالرماد "أراضي جرداء" لم يجر تفصيله في الكتاب على الرغم من أنه في الفيلم ،حسب وصف المخرج الأسترالي جون هلكوت، يصبح حكاية عن "انتقام الطبيعة: إننا بالتأكيد أبرزنا التهديد البيئي".

يقضي مكارثي أكثر وقته في معهد سانتا قرب بيته في نيو مكسيكو وهو معهد متعدد المعارف أسسه طبيب من "لوس ألموس" اسمه "موراي جيل-مان" لدراسة "الأنظمة المعقدة". يتغذى مكارثي هناك ويعقد صداقات مع عدد من العلماء. وحين سأل مؤخراً في لقاء مع صحيفة "وول ستريب جورنال" عن طبيعة الكارثة في رواية "الطريق" أجاب بالقول:" ليس لديّ فكرة. يمكن أن تكون أي شيء- نشاط بركاني أو يمكن أن تكون حرباً نووية. الأمر ليس مهماً في الواقع. والمسألة برمتها الآن هي ماذا سنفعل؟ المرة الأخيرة التي انفجرت فيها عين البركان في "يلوستون" كانت قارة أمريكا الشمالية برمتها مغطاة بحوالي قدم من الرماد. الناس الذين غطسوا في بحيرة "يلوستون" يقولون بأن هناك انتفاخاً في الأرضية ارتفاعه الآن حوالي 100 قدم والمسألة برمتها هي مجرد نوع من الذبذبة. تحصل على أجوبة مختلفة من أناس مختلفين فيمكن أن تحدث الكارثة خلال ثلاثة أو أربعة آلاف سنة أو ربما تقوم يوم الخميس...".


غريزياً لا تستطيع أن تغالب الشعور بأن مكارثي يميل نحو الإطار الزمني الأخير. إنه المتشائم الكبير في الأدب الأمريكي الذي يستعمل كلمات الدراويش ليضيء عالماً كل شيء فيه تقريباً (وبضمنه التنقيط) قد أصبح غباراً. وناقش مرة بأنه لا يمكنه أن يرى أي هدف في الأدب مطلقاً إن لم يركز على الموت. ومحكه هو دوستويفسكي وملفيل وليس لديه وقت لهنري جيمس.



غير أن رؤاه المرضية جوهرية جداً في إخبارها بأنها أقنعت أولئك الذين راهنوا خارج منطقة الفروق الدقيقة. سول بيلو المراقب الفذ لكوميديا الأمل الأمريكي الحية جلس في اللجنة عام 1981 و منح "مكارثي المنحة الرائعة " زمالة مكارثر " وأشار إلى "جمله الطاغية .. المانحة للحياة والمتعاملة مع الموت".

بصورة عامة لا يوجد شيء اسمه المجتمع في كتب "مكارثي" – أو الكثير عن العائلة أو الحياة المنزلية- إذ لم يكن معتاداً عليها أيضاً حين كان في سن الرشد. كان الابن الأكبر لمحامي بارز من شرق تنيسي و كان لديهم بيت كبير ومساحات من الأرض والخدم.

تمرد مكارثي ضد أبيه مبكراً؛ لم ير قيمة في المدرسة وفضل السعي المكرس وراء أشيائه الغريبة. ويتذكر قائلاً:" في مدرسة النحو أتذكر المعلم وهو يسأل إن كان أحد لديه هوايات. كنت الوحيد الذي لديه هويات وكان لديّ كل الهوايات.. سمّ إي شيء مهما كان سرياً. استطيع أن أعطي أي إنسان هواية".

تم طرده من جامعة تنيسي وظل ينخرط في أعمال لمدة طويلة ويتركها بعد ذلك. التحق بالقوة الجوية سنتين وبدأ يقرأ الكتب فقط حين أرسل إلى ألاسكا حيث كان هناك القليل لعمله. وعلى الرغم من إنه تزوج مرتين ( المرة الثانية في الستينيات من مغنية بريطانية في رحلة بالباخرة)، ولديه ابنان فإنه قضى معظم حياته بطريقة وأخرى يعيش في النزل الفقيرة (في عام 1992 حين ظهر أول جزء من "ثلاثية الحدود" عن الغرب الأمريكي فهو ظل يرحل ومصباح 100 واط في حقيبته كي يستطيع أن يرى ما يقرأ في إقاماته على جانب الطريق).

كان يحلق رأسه بنفسه ويستحم في البحيرات ويولع بتحديقة المؤلف ماريون أتلنجور في صوره التي كانت تستعمل في بيع كتبه. في عصر الإفراط الأمريكي حفر مكارثي لنفسه صورة الرواقي في عصر التدهور الاقتصادي. وهو ما زال يقول عن طريقته في التشويش:" ثلاث حركات جيدة كالنار".

وعلى الرغم من أنه ظهر بصورة خرقاء في نادي كتب أوبرا وينفري عن رواية "الطريق" فإن مكارثي لم يكن لديه أي اهتمام في "العالم الأدبي" أو حتى في اللقاء وجهاً لوجه مع القراء ( وربما يكون الرجل الأقل استعمالاً للتويتر)؛ لهذا فكّر كغريب ذي طائفة مع أتباع قريبين للدين. ومثل كل العرافين يأتي حاملاً تذكاراته: طابعة أوليفيتي عاطلة كتب عليها كل كتبه. بيعت في بداية هذا الشهر في مزاد بقيمة 254000 دولار أكبر عشرين مرة من قيمتها التخمينية.

وعلى الرغم من أنه ركز في كتاباته على تفكيك الأساطير المؤسسة لأميركا وأعطاها سرداً دموياً آخر إلا أنه يمثل في شخصه النماذج الأصلية الباقية الأخرى للأمة، أي تلك المتعلقة بالمتوحد الداهية وهو يحكيها كما هي.

إن نقاد مكارثي ،بسبب بلاغته المنتمية إلى زمن الملك جيمس وذكورته الحمراء ذات الأسنان والمخالب ( يستطيع أحياناً أن يجعل صوت همنغواي مثل نسوي غيور) يتهمونه أحياناً بأن شخصيته غائبة عن رواياته موحين بأنها تفتقد أي سند سيرذاتي. ومع ذلك فرواية "الطريق" هي برهان قوي ضد هذا الرأي.

فمن ناحية هي فنتازيا من نوع الخيال العلمي لجحيم مستقبلي؛ ويمكن أن تقرأ تماماً بسهولة كونها بارانويا ما بعد منتصف الليل خاصة بأب (معمر) عن ولده بسبب عدم حضوره هناك لحمايته من العالم.

وصرح مكارثي في حديثه مع صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن "الكثير من السطور في رواية "الطريق" هي أحاديث حرفية بيني وبين ابني "جون". قال جون:" بابا ماذا ستعمل إذا ما متّ أنا؟ قلت :" سأموت أنا أيضاً" قال:" إذن ستكون معي؟" قلت:" نعم لهذا أتمكن من أن أكون معك" تماماً كالمحادثة بين ذلك الرجل وابنه في الرواية".

وبهذا الشأن نتساءل قليلاً حول بعض الحوارات التي تجري بين الأب وابنه بينما يقومان برحلة بحثهم اليائسة عبر القارة المحطمة بعربتهم التي تحمل أمتعتهم. وبعد أن يختفي من أكلة لحوم البشر فأن الصبي الذي يلبس -في نظر أبيه- عباءة مخلص الإنسانية، يسأل أبوه:" أننا لن نأكل أي جسد، أليس كذلك؟


" كلا. بالطبع"

"مهما يكن"

"كلا .مهما يكن"

"لأننا رجال خيرون"

"نعم"


ربما هناك بعض الأطفال الذين ولدوا بغريزة عدم أكل لحم الإنسان حتى عند الضرورة القصوى لكن هذا هو المكان الذي يضع فيه مكارثي أمله. ويعتقد بأن "ليس هناك شيء مثل الحياة بدون إراقة دماء". ويقول:" الفكرة التي تقول بأن الأنواع يمكن أن تتحسن من بعض النواحي وبأن الكل يمكن أن يعيشوا بتوافق هي فكرة خطرة حقاً. أولئك المبتلون بتلك الفكرة هم الأوائل الذين يتخلون عن أرواحهم وحرياتهم. ورغبتك حين تكون بتلك الطريقة سوف تستعبدك وتجعل من حياتك فارغة".

* قاص ومترجم عراقي


ليست هناك تعليقات: