الرسم العراقي ...
*خالد خضير الصالحي
كنا نزعم وجود نسقين في الرسم التجريدي العراقي: نسق انبثق من التعبيرية ببطء، من الاشكال المشخصة، تحويرا واسلبة، وظل وفياً لتلك التعبيرية، حتى في (اشد) حالاته ايغالا في التجريدً، وآخر ابتدأ من (اللامشخص)، فلم يكن في حساباته المماثلة مع اشكال الواقع مطلقا، وظل كذلك وفياً لمنطلقاته تلك، وكأني بهؤلاء وهؤلاء الرسامين - وهم يضعون أدوات الرسم ومواده على سطح اللوحة- يبدوكل منهم منقادا بقوة صور الذاكرة المهيمنة عليهم، اعماق الذاكرة (حيث يكمن الطابع typos في قلب الرؤية الفنية)، سواء أكان هذا الطابع ذا طبيعة مشخصة أم غير مشخصة ، فهي تقودهم كالمسرنمين إلى حقل اشتغالها حيث التفكير بالصور، ونحن هنا ليس بصدد معايرة التجارب فيستوي، في حكمنا هؤلاء وهؤلاء ، فالجميع تهمين عليهم تلك الصور وتقودهم الى حيث تريد.
وقد كنت اختار بعضاً من الفئة الأولى، التي تبتدئ بمشخصات الواقع وتنتهي بها مجردة وبعضا من الفئة الثانية التي تبتدئ (باللاشكل) وتنتهي به، فكنت اتخذ هاشم حنون ، الرسام العراقي المقيم في عمان نموذجاً لفئة (الشخصانيين)، وهناء مال الله ونزار يحيى وكريم رسن وغسان غائب وسامر أسامة نموذجاً لـ(اللاشكليين)، وزعمت انه مثلما مَنعتْ (فكرة الشيء) بيكاسو من الرسم بطريقة (تجريدية)، حينما يقرر (فرانكلين ر. روجرز) ذلك، ويورد قولاً لبيكاسو: يؤكد فيه "ليس هناك فن تجريدي.. ينبغي عليك دائماً أن تبدأ من شيء ما، وبعد ذلك تستطيع أن تزيل عنه كل بصمات الواقع.. ومهما يحدث فإن فكرة الشيء تكون قد تركت علامة لا يمكن إزالتها"، ويورد (فرانكلين ر. روجرز) كذلك توكيدا لهنري ماتيس يقول فيه: "ليس من الضروري للفنان سوى أن يمتلك داخل نفسه إيضاحاً لذلك الشيء ، الذي يمتلكه عميقاً، داخل نفسه"، ونحن نعتقد ان ما عناه ما تيس هو ذاته ما يسميه جورج براك (الحقيقة التصويرية) التي يضعها في طرف نقيض مع (الحقيقة الحكائية)، فإن الرسام يكون معنياً بتكوين الأولى وليست الثانية، وهنا نزعم طوال كتاباتنا الماضية ان "إن فكرة الشيء تكون قد تركت علامة لا يمكن إزالتها" هي التي منعت الرسام العراقي المقيم في عمان هاشم حنون من الوصول الى رسم تجريدي كالذي يرسم به نزار يحيى واضرابه.
تلك ثوابتنا التي كانت تعنّ في خاطرنا كلما فكرنا في الكتابة عن اتجاهات الرسم التجريدي العراقي المعاصرالذي لم يكن ، في رأينا، إلا (علامات) راسخة في ذهن الرسامين (للشيء) بعد ان أخضعوها لمختلف ضروب تجاربهم المختبرية، فقمعوا بعض عناصرها لإبراز البعض الآخر من خلال اختيار أهم مهيمناتها التي تظهر فيها (جرثومة) الشكل أو (الموضوعة الدالة= الموتيف)، وهي ذاتها (الجرثومة) التي تظهر في نمط آخر محايث من الرسم نسميه تجاوزاً (تجريدياً)، او هو يقف في التخوم الفاصلة بين التعبيرية المشخصة والتجريد، ونعتبر اهم نموذج له تجربة الرسام العراقي المقيم في بنسلفانيا (صدر الدين أمين)، ذلك الذي يتخذ نسقاً (ثالثاً) بإصرار لا يلين، فتتحول لوحاته إلى موتيفات (جرثومات) لأنماط شكلية ذات طبيعة خطية (بكتوغرافية) صلبة من أشكال هيكلية لمشخصات: كائنات شديدة الاختزال، وشامانات، وبشر متوحشين ومنخرطين في رقصة طقوسية ، وبذلك تنتهي كل الاتجاهات التجريدية (الثلاثة) إلى تأسيس (نظام إشارات بكتوغرافية) من تلك المهيمنات الشكلية التي تهيمن على ذاكرة المبدع، وتخضع لها كل الأشكال التي يرسمها، من خلال مزاوجة بين أشكال الواقع وأشكال الفن و(مشخصاتهما)، وبين النظام الاشاري الذي أسسه الرسام طوال تجربته الماضية ، فكانت أيقونات هاشم حنون إشارات لونية غير خطية تنبع من مشخصات المدن التي علقت في ذاكرته، وهيمنت عليها، فتارة كانت تلك المدن تظهر بكرنفالاتها وافراحها والوانها المبهجة وتارة تظهر تلك المدينة، مدينة طفولته (=البصرة) كالحة بلون التراب كلما هاجمها الطاعون واحالها خرابا، او محترقة كلما وطأها الغزاة عبر تاريخها المديد، بينما كانت اشارات: نزار يحيى وغسان غائب وسامر إسامة، وثلاثتهم يقيمون في العاصمة الاردنية عمان، تبدو أيقونات مسطحة تتخذ شكل اللوحة الخارجي الذي لم يكن دائماً مستطيلاً معتدلاً ، ولا صلة لها بمشخصات الواقع ، أيقونات انبعثت من تراكم تجارب التشكيل العراقي منذ عقود، توجتها تجارب رسامي العقد الستيني وما تلاه من أجيال ، واخيرا كان اولئك البكتوغرافيون (صدر الدين أمين وكريم رسن في مرحلة سابقة من تجربته) ينتجون ويعيدون إنتاج إشاراتهم الهيكلية الخطية بإصرار باعتبارها الجرثومة التي يؤسس عليها فن الرسم منذ حقبه الغائرة في القدم وما زالت صالحة كذلك حتى الآن.
* ناقد تشكيلي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق